<
<النجار ـ حكاية عربية
<
<
<
<
في عصر ما وفي مملكة من ممالك الأرض التي لا عد لها، عاش نجار بارع، كسب قوته وقوت أهله من صنعته التي تعلمها على أيدي أمهر نجاري عصره وأكثرهم مهنية وبراعة في التصميم والإنتاج. وكان لشدة حبه لمهنته، كلما سمع عن نجار مشهور، يتبعه ويخدمه حتى يتعلم منه أفضل ما عنده من فنون النجارة والتصميم. ويقال ـ حسب ما جاء في السجلات القديمة ـ إن صاحبنا النجار جمع خبرة العصور، واكتسب مهارات لم يسبقه إليها أحد من قبله، وإنه فاق الجميع براعة وإتقانا وفنا، مما جعل الناس يضربون به المثل كنموذج للجودة والإتقان.
وكان نجارنا الشاطر شديد الذكاء كما سجل عيون النظام المنتشرين في أرجاء المملكة من فوق الأرض ومن تحتها، حتى يبقى المواطن سعيدا بنظامه. وسجل العيون أنه تطورت على يد النجار أشكال عدة من الكراسي، فصنع كراسي مع مساند للظهر، وبعد الفحص الأمني وإخضاع النماذج الأولى للفحص المختبري في أروقة السلطة، وتجربتها على المسجونين من عامة الشعب، صرح للنجار بإنتاجها وتسويقها.. كذلك فاجأهم النجار بصناعة الكراسي بلا مساند للظهر وهذه لم يستغرق فحصها غير أشهر قليلة قبل التصريح بإنتاجها، وما هي إلا سنة أو أقل، حتى صنع كراسي مع مساند للظهر والذراعين.. مما أحدث ضجة شعبية أقلقت النظام.. ولكن للحقيقة لم يتبين للسلطة أي خلل يسمح بتسرب أعداء الوطن والملك عبر مساند الكراسي للعبث بأمن النظام.. ولكن النجار حير العيون وأقلق حاشية الملك بسرعة خاطره، فلم تمض غير أسابيع من التصريح بإنتاج الكراسي ذوات مساند الظهر والذراعين حتى بدأ ينتج أشكالا لا تخطر على بال إنس في المملكة العظمى، فغير في أشكال الكراسي وأحجامها، فهذا المدور الظهر، وذلك المدور المقعد، والمستطيل، والمربع والنصف دائري... وتفنن في زخرفتها ونقشها، وصنع الخزائن بأحجام عدة، وتفنن في أشكالها، وبرع في تجميلها، وكأنها تحفة فنية وليست مجرد وسيلة لحفظ الثياب. وصنع النجار الكنبات والطاولات ومشابك الملابس، فجن جنون الحكومة من هذه البدع الإنتاجية.. وضاعفت العيون حوله.. فامتلأت الشوارع المحيطة ببيت النجار ومنجرته بمئات الباعة المتجولين والزوار الأجانب وجلساء المطاعم؛ مما نشط الحركة التجارية وتحسن البيع والشراء وارتفعت مداخيل الناس.. بل وازداد عدد المواطنين الذين تركوا أحياءهم الفقيرة واستقروا في أماكن قريبة من سكن النجار ومنزله.. فارتفعت أسعار المنازل وإيجاراتها، ولكن السر الذي لم يعرفه أحد أن مئات الباعة المتجولين والزوار الأجانب وجلساء المطاعم، ما هم إلا عيون السلطة الساهرين على أمن المواطن.. وأن هذه النهضة الاقتصادية ما هي إلا عملية تجسس كبرى ورقابة لا تفوت أي حركة أو همسة تصدر عن النجار وزبائنه، ولكن النظام العادل لم يجد الدليل على خيانة النجار.. ولم يعرف ما الدافع لهذا النشاط غير المعروف سابقا في المملكة.. فهل مسه الشيطان؟ أم مسخه إبليس شيطانا على شكل إنسان؟ ولكن الاحتياط واجب حتى لا تحدث المفاجآت غير المحسوبة سلفا. فكان لا بد من إبقاء العيون تراقب وتسجل..
دائرة التخطيط الاستراتيجي في المملكة لم تصل ـ بعد بحثها ودراساتها الطويلة، وتبويب المعلومات الواصلة من الميدان مباشرة ـ إلى أي استنتاج حول نوايا شغب مبيتة لدى النجار، أو أشكال متوقعة لاستغلال منتوجاته في إثارة الفتنة وتعريض أمن المواطنين للخطر.
وقد لاحظ العيون أيضا أنه إذا ما بنى أحدهم بيتا وقصد النجار، يحصل على أبواب تصبح قبلة للزائرين، الذين يفدون بمئآتهم لرؤية، ليس مجرد أبواب تؤمن مداخل البيت وتفصل بين الليوان والغرف، إنما تحف فنية مزخرفة بالنقوش والأقوال الحكيمة، وتسبيح الخالق... فبات النجار من أشهر مواطني المملكة، وأكثرهم ذكرا على الشفاه، مما أثار حفيظة رئيس الشرطة.. فزرع المزيد من العيون يراقبون النجار ويتصيدون أخباره ويبلغون عن حركاته أثناء عمله، وشكل استعماله لعدة النجارة، وأقيمت غرفة عمليات خاصة لدراسة المعلومات فور وصولها، وإبقاء الموضوع مطروحا كخطر متوقع يجب الاحتياط الدائم له.. بل وكثيرا ما اقترح رئيس الشرطة نفي النجار وهدم المنجرة والتخلص من القلق الدائم على أمن المواطنين والمملكة الشاسعة الأطراف.. فلعل وعسى الشيطان يهمس له ويهون له الأمور، فيطمع من قلة عقله بما هو أبعد من طاولة النجارة والمشغل، فيطمح مثلا أن يصير رئيس شرطة، أو ربما وزيرا.. أو ربما، أستغفر الله.. أن يصير الملك نفسه؟! من يعلم ماذا يهمس الشيطان لابن آدم؟!
أما صاحبنا النجار فكان غارقا في صنعته، مستلهما آيات الحسن والجمال، ناشدا الروعة والجودة، وقد فاتني الإشارة الهامة، إلى أن أفضل ما اشتهر به نجارنا، هو صناعة الأسرة؛ فقد كان الناس، أكثر الناس، في ذلك العصر القديم، يفترشون الأرض، وينامون عليها، والأكثرية المطلقة من الناس لم تفكر أنه يمكن أن يوضع شيء ما بين الفرشة والأرض، بحيث تتلين النومة، ويسرح النائم في طراوة الفراش، وتمتلئ نفسه بهجة وسلوانا. وعندما سئل رئيس الشرطة عن الفائدة الأمنية للوطن من استعمال الأسرة، لم يجد جوابا يرضي الملك وحاشيته.. ولم يقبل أحد من عظماء النظام ادعاء رئيس الشرطة بأن الأسرة تهدف الجمع بين المتآمرين للتخطيط ويجب منع إنتاجها.. فتساءل الوزير الأول إن كان قائد الشرطة يعتقد بأن سرير الملك أيضا بات لنفس الغرض؟ وإذا ألغينا الأسرة أين ينام مليكنا المفدى؟!
بدأ النجار ينتج الأسرة، فقلده بقية النجارين، فلم يكن في ذلك الزمن مكتب ملكي متخصص في تسجيل براءة الاختراعات، لذا استغل النجارون الفوضى وقلدوا أسرة نجارنا، والحق يقال إن النجار كان كريم الأخلاق، سخيا، لا يطمع في دنياه ويبني لآخرته.. فكثيرا ما أرشد بنفسه النجارين على أصول الصنعة وأساليبها وفنها، ولكن معرفة الفن شيء، وصنع وإنتاج الفن شيء آخر.. لذا بقي نجارنا أفضل الصناع في مهنته، وأشهرهم في إنتاج الأسرة.
ازدادت شهرة نجارنا حتى لم يعد أحد يعرف أن يحدد نطاقها، مما زاد من قلق كبار الوزراء وكبار الأتباع، فجندوا العيون من خريجي الجامعات وأتبعوهم بالضباط المتقاعدين أصحاب الخبرات المؤكدة في قمع أعداء الوطن والمتطاولين على مصلحة الشعب وأمن النظام. وجند رجال الدين لصد الأفكار الهدامة التي قد يتجرأ النجار على التفوه بها، ولكنه مصفى لا تبدر منه بادرة لتنقض عليه جحافل القوى الأمنية، ويتصرف بشكل مشروع ظاهريا، مضللا جيوش المجندين لرقابته. ولم تسفر رقابته وعد حركاته وتفسير كلامه وصمته على اتهامه بتهديد المجتمع وأمن الملك والدولة، حتى يتم التخلص منه مرة وإلى الأبد وراء قضبان لا ينفذ منها حتى الجن الأزرق.
انشغلت الدولة بجمع ما يتفوه به النجار، وما يقال عنه بين الناس.. ومراقبة حركاته في عمله وإعادة تمثيلها في دائرة التخطيط الاستراتيجي، لفهم مراميها والاستعداد لما هو أسوأ، وهل في حركاته أثناء إنتاجه للكراسي والخزائن والأسرة ما يهدد أمن الجمهور وإخلاصهم للملك؟
حتى أهل بيته وكل من يمت إليه بصلة الصداقة أو القرابة أو حتى تبادل التحيات.. وضعوا بأمر ملكي تحت الرقابة. حتى مشترياته من الفواكه والخضار واللحوم.. والطعام عموما، وضعت تحت الفحص والتحاليل، وهناك معلومات غير مؤكدة سربها عين من العيون، تقول إن الدولة تجمع زبالة النجار وما يتدفق من مجاريه، ليفحص مخبريا، لعل وعسى تنكشف حقيقته المتخفية.. وكانت صعوبة في فحص ما يجمع وتحديد صفته، بسبب تبدل ما يلتهمه النجار وأهل بيته، مما يثير النقاشات العاصفة في مختلف أجهزة العيون التي تكاثرت حتى أصبح لكل دستة مواطنين عينا يراقب ويسجل.. وكثرت حملات الاعتقال بين ضعاف النفوس المستهترين بالوطن، والمتعاونين على إخفاء المعلومات التي تدين النجار بالتآمر والخيانة العظمى.. وتراكمت المعلومات ورتبت حسب أهميتها الأمنية.. واحتلت كل الرفوف الفارغة في مكاتب الوزارات، والتي كان من المتوقع أن تخدم الدولة عقدين من السنين على الأقل حسب الخطة الخماسية الأخيرة..
حقا طرحت أفكار كثيرة، بعضها يدعو لطرد النجار من المملكة، نظرا لتكتمه الشديد وصعوبة فهم ما يفكر به.. والتفكير هو ضمن الممنوعات التي يعاقب عليها القانون.. ولكن بعض الدول التي تسيطر على البحار، ستجد بمثل هذه الخطوة عملا عدائيا لها، وهي غير مستعدة على تحمل رجل بالغ الخطورة، مثل النجار، ليعيش منفيا في بلادها. حتى الخبراء السياسيين والعسكريين والاقتصاديين ورجال الدين وضاربي المندل والنبلاء على أشكالهم ومراتبهم المتعددة، من راكبي الخيل حتى راكبي الحمير، حتى مستعملي المركوب الخشبي.. لم يصلوا إلى نتيجة ترضي النظام، فجرى الاستعانة بفتاحات القهوة، اللواتي سربت إليهم الفناجين التي شرب منها النجار بعد أن أخرجت من منزله على أيدي أمهر حرامية في النظام.. وظلوا حائرين في تأويل ما يجري وكشف الغامض في سيرة النجار، وإن كان يفكر أو يبيت أمرا مريبا.. ولا بد أن أضيف ما هو هام للغاية، إذ دفعت هذه التجربة الملك المحبوب لإصدار أمر ملكي، بإنشاء علم جديد يسمى "نجارلوجيا"، يبدأ بتدريسه لأصحاب أحسن المعدلات العلمية من الطلاب في بداية الفصل الدراسي الجديد، وأعد كادر من الخبراء الأمنيين والمنجمين قراء المستقبل، لتدريس الموضوع، وإن خريجي هذا القسم العلمي الجديد، توظيفهم مضمون بلا وساطة وبراطيل.
صحيح أن العيون والشرطة بأجهزتها المتعددة القديمة والحديثة والأحدث وما بعد الحداثة وما بعد بعد.. أشاعت جوا من الرعب حول النجار وأهل بيته، ولكن صاحبنا قوي الأعصاب، كان يتصرف وكأنه يعيش في عالم آخر، غير مكثرث ولا ملتفت لما يدور حوله، وكأنه ليس هو المقصود بهذه الحملة التي كلفت صاحب الجلالة وأهل المملكة أموالا طائلة حتى الآن، ولا تبدو بعد نهاية لهذا الصرف الهائل من أجل سلامة المواطن وحقه الحر في الدعاء لله والملك. حتى الأموال التي تلقتها المملكة من الأشقاء ومن الضرائب على سكان المملكة.. ومن التهريبات الشرعية لضمان قوة الدولة وعزتها بحاشية الملك، لم تعد تفي بالصرف المتزايد.. وخلقت عجزا كبيرا في ميزان المدفوعات
وكان نجارنا الشاطر شديد الذكاء كما سجل عيون النظام المنتشرين في أرجاء المملكة من فوق الأرض ومن تحتها، حتى يبقى المواطن سعيدا بنظامه. وسجل العيون أنه تطورت على يد النجار أشكال عدة من الكراسي، فصنع كراسي مع مساند للظهر، وبعد الفحص الأمني وإخضاع النماذج الأولى للفحص المختبري في أروقة السلطة، وتجربتها على المسجونين من عامة الشعب، صرح للنجار بإنتاجها وتسويقها.. كذلك فاجأهم النجار بصناعة الكراسي بلا مساند للظهر وهذه لم يستغرق فحصها غير أشهر قليلة قبل التصريح بإنتاجها، وما هي إلا سنة أو أقل، حتى صنع كراسي مع مساند للظهر والذراعين.. مما أحدث ضجة شعبية أقلقت النظام.. ولكن للحقيقة لم يتبين للسلطة أي خلل يسمح بتسرب أعداء الوطن والملك عبر مساند الكراسي للعبث بأمن النظام.. ولكن النجار حير العيون وأقلق حاشية الملك بسرعة خاطره، فلم تمض غير أسابيع من التصريح بإنتاج الكراسي ذوات مساند الظهر والذراعين حتى بدأ ينتج أشكالا لا تخطر على بال إنس في المملكة العظمى، فغير في أشكال الكراسي وأحجامها، فهذا المدور الظهر، وذلك المدور المقعد، والمستطيل، والمربع والنصف دائري... وتفنن في زخرفتها ونقشها، وصنع الخزائن بأحجام عدة، وتفنن في أشكالها، وبرع في تجميلها، وكأنها تحفة فنية وليست مجرد وسيلة لحفظ الثياب. وصنع النجار الكنبات والطاولات ومشابك الملابس، فجن جنون الحكومة من هذه البدع الإنتاجية.. وضاعفت العيون حوله.. فامتلأت الشوارع المحيطة ببيت النجار ومنجرته بمئات الباعة المتجولين والزوار الأجانب وجلساء المطاعم؛ مما نشط الحركة التجارية وتحسن البيع والشراء وارتفعت مداخيل الناس.. بل وازداد عدد المواطنين الذين تركوا أحياءهم الفقيرة واستقروا في أماكن قريبة من سكن النجار ومنزله.. فارتفعت أسعار المنازل وإيجاراتها، ولكن السر الذي لم يعرفه أحد أن مئات الباعة المتجولين والزوار الأجانب وجلساء المطاعم، ما هم إلا عيون السلطة الساهرين على أمن المواطن.. وأن هذه النهضة الاقتصادية ما هي إلا عملية تجسس كبرى ورقابة لا تفوت أي حركة أو همسة تصدر عن النجار وزبائنه، ولكن النظام العادل لم يجد الدليل على خيانة النجار.. ولم يعرف ما الدافع لهذا النشاط غير المعروف سابقا في المملكة.. فهل مسه الشيطان؟ أم مسخه إبليس شيطانا على شكل إنسان؟ ولكن الاحتياط واجب حتى لا تحدث المفاجآت غير المحسوبة سلفا. فكان لا بد من إبقاء العيون تراقب وتسجل..
دائرة التخطيط الاستراتيجي في المملكة لم تصل ـ بعد بحثها ودراساتها الطويلة، وتبويب المعلومات الواصلة من الميدان مباشرة ـ إلى أي استنتاج حول نوايا شغب مبيتة لدى النجار، أو أشكال متوقعة لاستغلال منتوجاته في إثارة الفتنة وتعريض أمن المواطنين للخطر.
وقد لاحظ العيون أيضا أنه إذا ما بنى أحدهم بيتا وقصد النجار، يحصل على أبواب تصبح قبلة للزائرين، الذين يفدون بمئآتهم لرؤية، ليس مجرد أبواب تؤمن مداخل البيت وتفصل بين الليوان والغرف، إنما تحف فنية مزخرفة بالنقوش والأقوال الحكيمة، وتسبيح الخالق... فبات النجار من أشهر مواطني المملكة، وأكثرهم ذكرا على الشفاه، مما أثار حفيظة رئيس الشرطة.. فزرع المزيد من العيون يراقبون النجار ويتصيدون أخباره ويبلغون عن حركاته أثناء عمله، وشكل استعماله لعدة النجارة، وأقيمت غرفة عمليات خاصة لدراسة المعلومات فور وصولها، وإبقاء الموضوع مطروحا كخطر متوقع يجب الاحتياط الدائم له.. بل وكثيرا ما اقترح رئيس الشرطة نفي النجار وهدم المنجرة والتخلص من القلق الدائم على أمن المواطنين والمملكة الشاسعة الأطراف.. فلعل وعسى الشيطان يهمس له ويهون له الأمور، فيطمع من قلة عقله بما هو أبعد من طاولة النجارة والمشغل، فيطمح مثلا أن يصير رئيس شرطة، أو ربما وزيرا.. أو ربما، أستغفر الله.. أن يصير الملك نفسه؟! من يعلم ماذا يهمس الشيطان لابن آدم؟!
أما صاحبنا النجار فكان غارقا في صنعته، مستلهما آيات الحسن والجمال، ناشدا الروعة والجودة، وقد فاتني الإشارة الهامة، إلى أن أفضل ما اشتهر به نجارنا، هو صناعة الأسرة؛ فقد كان الناس، أكثر الناس، في ذلك العصر القديم، يفترشون الأرض، وينامون عليها، والأكثرية المطلقة من الناس لم تفكر أنه يمكن أن يوضع شيء ما بين الفرشة والأرض، بحيث تتلين النومة، ويسرح النائم في طراوة الفراش، وتمتلئ نفسه بهجة وسلوانا. وعندما سئل رئيس الشرطة عن الفائدة الأمنية للوطن من استعمال الأسرة، لم يجد جوابا يرضي الملك وحاشيته.. ولم يقبل أحد من عظماء النظام ادعاء رئيس الشرطة بأن الأسرة تهدف الجمع بين المتآمرين للتخطيط ويجب منع إنتاجها.. فتساءل الوزير الأول إن كان قائد الشرطة يعتقد بأن سرير الملك أيضا بات لنفس الغرض؟ وإذا ألغينا الأسرة أين ينام مليكنا المفدى؟!
بدأ النجار ينتج الأسرة، فقلده بقية النجارين، فلم يكن في ذلك الزمن مكتب ملكي متخصص في تسجيل براءة الاختراعات، لذا استغل النجارون الفوضى وقلدوا أسرة نجارنا، والحق يقال إن النجار كان كريم الأخلاق، سخيا، لا يطمع في دنياه ويبني لآخرته.. فكثيرا ما أرشد بنفسه النجارين على أصول الصنعة وأساليبها وفنها، ولكن معرفة الفن شيء، وصنع وإنتاج الفن شيء آخر.. لذا بقي نجارنا أفضل الصناع في مهنته، وأشهرهم في إنتاج الأسرة.
ازدادت شهرة نجارنا حتى لم يعد أحد يعرف أن يحدد نطاقها، مما زاد من قلق كبار الوزراء وكبار الأتباع، فجندوا العيون من خريجي الجامعات وأتبعوهم بالضباط المتقاعدين أصحاب الخبرات المؤكدة في قمع أعداء الوطن والمتطاولين على مصلحة الشعب وأمن النظام. وجند رجال الدين لصد الأفكار الهدامة التي قد يتجرأ النجار على التفوه بها، ولكنه مصفى لا تبدر منه بادرة لتنقض عليه جحافل القوى الأمنية، ويتصرف بشكل مشروع ظاهريا، مضللا جيوش المجندين لرقابته. ولم تسفر رقابته وعد حركاته وتفسير كلامه وصمته على اتهامه بتهديد المجتمع وأمن الملك والدولة، حتى يتم التخلص منه مرة وإلى الأبد وراء قضبان لا ينفذ منها حتى الجن الأزرق.
انشغلت الدولة بجمع ما يتفوه به النجار، وما يقال عنه بين الناس.. ومراقبة حركاته في عمله وإعادة تمثيلها في دائرة التخطيط الاستراتيجي، لفهم مراميها والاستعداد لما هو أسوأ، وهل في حركاته أثناء إنتاجه للكراسي والخزائن والأسرة ما يهدد أمن الجمهور وإخلاصهم للملك؟
حتى أهل بيته وكل من يمت إليه بصلة الصداقة أو القرابة أو حتى تبادل التحيات.. وضعوا بأمر ملكي تحت الرقابة. حتى مشترياته من الفواكه والخضار واللحوم.. والطعام عموما، وضعت تحت الفحص والتحاليل، وهناك معلومات غير مؤكدة سربها عين من العيون، تقول إن الدولة تجمع زبالة النجار وما يتدفق من مجاريه، ليفحص مخبريا، لعل وعسى تنكشف حقيقته المتخفية.. وكانت صعوبة في فحص ما يجمع وتحديد صفته، بسبب تبدل ما يلتهمه النجار وأهل بيته، مما يثير النقاشات العاصفة في مختلف أجهزة العيون التي تكاثرت حتى أصبح لكل دستة مواطنين عينا يراقب ويسجل.. وكثرت حملات الاعتقال بين ضعاف النفوس المستهترين بالوطن، والمتعاونين على إخفاء المعلومات التي تدين النجار بالتآمر والخيانة العظمى.. وتراكمت المعلومات ورتبت حسب أهميتها الأمنية.. واحتلت كل الرفوف الفارغة في مكاتب الوزارات، والتي كان من المتوقع أن تخدم الدولة عقدين من السنين على الأقل حسب الخطة الخماسية الأخيرة..
حقا طرحت أفكار كثيرة، بعضها يدعو لطرد النجار من المملكة، نظرا لتكتمه الشديد وصعوبة فهم ما يفكر به.. والتفكير هو ضمن الممنوعات التي يعاقب عليها القانون.. ولكن بعض الدول التي تسيطر على البحار، ستجد بمثل هذه الخطوة عملا عدائيا لها، وهي غير مستعدة على تحمل رجل بالغ الخطورة، مثل النجار، ليعيش منفيا في بلادها. حتى الخبراء السياسيين والعسكريين والاقتصاديين ورجال الدين وضاربي المندل والنبلاء على أشكالهم ومراتبهم المتعددة، من راكبي الخيل حتى راكبي الحمير، حتى مستعملي المركوب الخشبي.. لم يصلوا إلى نتيجة ترضي النظام، فجرى الاستعانة بفتاحات القهوة، اللواتي سربت إليهم الفناجين التي شرب منها النجار بعد أن أخرجت من منزله على أيدي أمهر حرامية في النظام.. وظلوا حائرين في تأويل ما يجري وكشف الغامض في سيرة النجار، وإن كان يفكر أو يبيت أمرا مريبا.. ولا بد أن أضيف ما هو هام للغاية، إذ دفعت هذه التجربة الملك المحبوب لإصدار أمر ملكي، بإنشاء علم جديد يسمى "نجارلوجيا"، يبدأ بتدريسه لأصحاب أحسن المعدلات العلمية من الطلاب في بداية الفصل الدراسي الجديد، وأعد كادر من الخبراء الأمنيين والمنجمين قراء المستقبل، لتدريس الموضوع، وإن خريجي هذا القسم العلمي الجديد، توظيفهم مضمون بلا وساطة وبراطيل.
صحيح أن العيون والشرطة بأجهزتها المتعددة القديمة والحديثة والأحدث وما بعد الحداثة وما بعد بعد.. أشاعت جوا من الرعب حول النجار وأهل بيته، ولكن صاحبنا قوي الأعصاب، كان يتصرف وكأنه يعيش في عالم آخر، غير مكثرث ولا ملتفت لما يدور حوله، وكأنه ليس هو المقصود بهذه الحملة التي كلفت صاحب الجلالة وأهل المملكة أموالا طائلة حتى الآن، ولا تبدو بعد نهاية لهذا الصرف الهائل من أجل سلامة المواطن وحقه الحر في الدعاء لله والملك. حتى الأموال التي تلقتها المملكة من الأشقاء ومن الضرائب على سكان المملكة.. ومن التهريبات الشرعية لضمان قوة الدولة وعزتها بحاشية الملك، لم تعد تفي بالصرف المتزايد.. وخلقت عجزا كبيرا في ميزان المدفوعات
Labels: النجار ـ حكاية عربية